طه القرني في تصاويره .. وليد من رحم الوجدان الشعبي
يبقى السياق الشعبي هو الملهم الأكثر حيوية للمبدعين بشكل عام ، سيما التشكيليون منهم ، وفى هذا الإطار يتنوع التأثير بين البصري و الروحي و الوجداني ، عبر الزمان والمكان ولغة المعتقد .. ولاشك أن الفنان الكبير طه القرني هو أحد المستلهمين البارزين للتراث الشعبي على الصعيد الواقعي المباشر من خلال حيزه المرئي ، وعبر هذا نجده قريناً لفرشاة رشيقة على السطح التصويري ، قادرة على فعل أدائي انطباعي يغازل التفاصيل و لا يقع في فخاخها ، بل يعتمد دائماً على استقطار الملامح الإنسانية و الجغرافية و التاريخية المحيطة به رغم تمكنه من علم التشريح على مستوى الإنسان والطيور والحيوانات ، بما يضمن له متانة البناء التصويري وعذوبته في آن .. وربما ما يساعده هنا انخراطه في التفاعل مع الطبقات الشعبية الفقيرة مادياً ، الغنية بشرياً و تراثياً ، و التي تمثل له العباءة التي يحتمى بها من تمييع انتمائه وشرخ هويته المصرية ، إلى أن صار الفنان طه القرني سلطاناً لوجدان الشعبيين في كل حالاتهم النفسية والبدنية ، حتى وهم ملتحفون بالعبوس أحياناً وبالغبار أحياناً أخرى ، تحت ملابس متواضعة لكنها محاكة بخيوط من الكبرياء الشعبي الذى يميز تلك الطبقات المكافحة .. وأعتقد أنه أكد هذا في عدة تجارب إبداعية متتالية منذ عدة سنين ، مثل ” سوق الجمعة ” ، ” المولد ” ، ” الزار ” ، ” عزبة الصعايدة ” ، حيث بدا فيها جميعاً قادراً على تقمص شخوص المهن الشعبية المتنوعة من التجار و الصنايعية و العمال و الفلاحين و الموظفين ببراعة المندمج العاشق لنسيجهم الجماهيري بكل تجلياته ، حتى أنني أجزم أنه يستمتع وينتشى أثناء أدائه التصويري بشعوره أنهم ملح الأرض كما يحب أن يصفهم باستمرار ، لذا نجد تمايزاته التصويرية بين لوحة الحامل وبانوراما الجدار كمثل عزف على أوتار الشعور الجمعي الشعبي ، وهو ما يميز سمته الإبداعية بين أقرانه .. وعبر زمن ممتد لم ألحظ أبداً أن طه القرني قد أصابه الملل أو حاول الفرار من ذلك السور الملهم ، بل كان ولم يزل متعلقاً به ، حتى أنه عبر ملمح تصويري جديد في تجربته الأخيرة مال لتحويل شخوصه وكائناته الحية إلى ما يشبه العرائس الشعبية على مسرح الهوية الممتد ، ليبقى دائماً وليداً شرعياً من رحم الوجدان الشعبي.
محمد كمال